فهرس المحتوى

لا تُقاس الأسواق العتيقة بمساحاتها ولا بعدد دكاكينها، بل بما تختزنه من ذاكرةٍ حيّةٍ تسري في هوائها وتتشبّثُ بأقبيتها الحجرية. تحت هذه القناطر تتجاور الحِرف واللغات والروائح: بخورٌ يختلط بعبق الجلود، وتوابلُ تُلوّن الضوء مثل فسيفساءٍ معلّقة، ونحاسٌ تلمعُ حوافه في عين المارّ كقطعٍ من صباحٍ بعيد. هنا لا يبيع الناسُ سِلَعًا فحسب، بل يعرضون زمنًا كاملًا قابلًا للمساومة.

في الممرّاتِ الضيّقة تتباطأ الخطى كأنها تُصغي؛ فكل دكّان يروي سيرةَ صاحبه، وكل بضاعةٍ تحمل أثر اليد التي صاغتها. البازار العتيق ليس متحفًا مغلقًا، بل مسرحٌ يوميّ يتبدّل ممثّلوه ولا تتبدّلُ خشبته. يتناوب عليه المسافرون وأهلُ المدينة، وتلتقي فيه عيونُ الفضول بعينَيِ الخبرة. ومن فوق الرؤوس، تظلّ الأقبية ترعى هذا الضجيج الحميم كأمٍّ تُهدهد أبناءها الكثيرين.

وربما سرّ سحرِ هذه الأسواق أنّها تمنح الداخلَ إليها شعورًا بنوعٍ نادرٍ من الاتّصال: اتصالٍ بالمكان وبالآخرين وبالذات معًا. فمن يساوم هنا إنما يُفاوضُ ذاكرته هو أيضًا؛ يزن ثمنَ قطعةٍ صغيرة على ميزان التعلّق بما هو أطولُ عمرًا من الاستهلاك السريع. هكذا تصيرُ كلُّ صفقةٍ درسًا في الصبر، وكلّ نداءِ بائعٍ نغمةً تُضيفُ طبقةً جديدةً إلى نشيد المدينة.

فإذا خرجتَ من البازار، خرجتَ مُحمّلًا بما هو أثمن من الأكياس: إحساسٍ بأنّ التاريخَ قد مشى إلى جوارك قليلًا، وأنّ الأقبيةَ، تحت وهج المصابيح، ما زالت تحفظُ صدى الحكايات لمن يُحسن الإصغاء.